فصل: الفصل الثامن والأربعون في حدوث الدولة وتجددها كيف يقع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الفصل الثامن والأربعون في حدوث الدولة وتجددها كيف يقع

اعلم أن نشأة الدول وبدايتها إذا أخذت الدولة المستقرة في الهرم والانتقاص يكون على نوعين‏:‏ إما بأن يستبد ولاة الأعمال في الدولة بالقاصية عندما يتقلص ظلها عنهم فتكون لكل واحد منهم دولة يستجدها لقومه وما يستقر في نصابه يرثه عنه أبناؤه أو مواليه ويستفحل لهم الملك بالتدريج وربما يزدحمون على ذلك الملك ويتقارعون عليه ويتنازعون في الاستئثار به ويغلب منهم من يكون له فضل قوة على صاحبه وينتزع ما في يده كما وقع في دولة بني العباس حين أخذت دولتهم في الهرم وتقلص ظلها عن القاصية واستبد بنو سامان بما وراء النهر وبنو حمدان بالموصل والشام وبنو طولون بمصر وكما وقع بالدولة الأموية بالأندلس وافترق ملكها في الطوائف الذين كانوا ولاتها في الأعمال وانقسمت دولاً وملوكاً أورثوها من بعدهم من قرابتهم أو مواليهم‏.‏ وهذا النوع لا يكون بينهم وبين الدولة المستقرة حرب لأنهم مستقرون في رئاستهم ولا يطمعون في الاستيلاء على الدولة المستقرة بحرب وإنما الدولة أدركها الهرم وتقلص ظلها عن القاصية وعجزت عن الوصول إليها‏.‏ والنوع الثاني بأن يخرج على الدولة خارج ممن يجاوزها من الأمم والقبائل إما بدعوة يحمل الناس عليها كما أشرنا إليه أو يكون صاحب شوكة وعصبية كبيراً في قومه قد استفحل أمره فيسمو بهم إلى الملك وقد حدثوا به أنفسهم بما حصل لهم من الاعتزازعلى الدولة المستقرة وما نزل بها من الهرم فيتعين له ولقومه الاستيلاء عليها ويمارسونها بالمطالبة إلى أن يظفروا بها ويزنون أمرها كما يتبين‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

  الفصل التاسع والأربعون في أن الدولة المستجدة

قد ذكرنا أن الدول الحادثة المتجددة نوعان‏:‏ نوع من ولاية الأطراف إذا تقلص ظل الدولة عنهم وانحسر تيارها وهؤلاء لا يقع منهم مطالبة الدولة في الأكثر كما قدمناه لأن قصاراهم القنوع بما في أيديهم وهو نهاية قوتهم والنوع الثاني نوع الدعاة والخوارج على الدولة وهؤلاء لا بد لهم من المطالبة لأن قوتهم وافية بها فإن ذلك إنما يكون في نصاب يكون له من العصبية والاعتزاز ما هو كفاء ذلك وواف به فيقع بينهم وبين الدولة المستقرة حروب سجال تتكرر وتتصل إلى أن يقع لهم الاستيلاء والظفر بالمطلوب‏.‏ ولا يحصل لهم في الغالب ظفر بالمناجزة‏.‏ والسبب في ذلك أن الظفر في الحروب إنما يقع كما قدمناه بأمور نفسانية وهمية وإن كان العدد والسلاح وصدق القتال كفيلاً به لكنه قاصر مع تلك الأمور الوهمية كما مر ولذلك كان الخداع من أنفع ما يستعمل في الحرب وأكثر ما يقع الظفر به وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ الحرب خدعة ‏"‏‏.‏ والدولة المستقرة قد صيرت العوائد المألوفة طاعتها ضرورية واجبة كما تقدم في غير موضع فتكثر بذلك العوائق لصاحب الدولة المستجدة ويكسر من همم أتباعه وأهل شوكته وإن كان الأقربون من بطانته على بصيرة في طاعته ومؤازرته إلا أن الأخرين أكثر وقد داخلهم الفشل بتلك العقائد في التسليم للدولة المستقرة فيحصل بعض الفتور منهم ولا يكاد صاحب الدولة المستجدة يقاوم صاحب الدولة المستقرة‏.‏ فيرجع إلى الصبر والمطاولة حتى يتضح هرم الدولة المستقرة فتضمحل عقائد التسليم لها من قومه وتنبعث منهم الهمم لصدق المطالبة معه فيقع الظفر والاستيلاء‏.‏ وأيضاً فالدولة المستقرة كثيرة الرزق بما استحكم لهم من الملك وتوسع من النعيم واللذات واختصوا به دون غيرهم من أموال الجباية فيكثر عندهم ارتباط الخيول واستجادة الأسلحة وتعظم فيهم الأبهة الملكية ويفيض العطاء بينهم من ملوكهم اختياراً واضطراراً فيرهبون بذلك كله عدوهم‏.‏ وأهل الدولة المستجدة بمعزل عن ذلك لما هم فيه من البداوة وأحوال الفقر والخصاصة فيسبق إلى قلوبهم أوهام الرعب بما ببلغهم من أحوال الدولة المستقرة ويحجمون عن قتالهم من أجل ذلك فيصير أمرهم إلى المطاولة حتى تأخذ المستقرة مأخذها من الهرم ويستحكم الخلل فيها في العصبية والجباية فينتهز حينئذ صاحب الدولة المستجدة فرصته في الاستيلاء عليها بعد حين منذ المطالبة‏.‏ سنة الله في عباده‏.‏ وأيضاً فأهل الدولة المستجدة كلهم مباينون للدولة المستقرة بأنسابهم وعوائدهم وفي سائر مناحيهم ثم هم مفاخرون لهم ومنابذون بما وقع من هذه المطالبة وبطمعهم في الاستيلاء عليها فتتمكن المباعدة بين أهل الدولتين سراً وجهراً ولا يصل إلى أهل الدولة المستجدة خبر عن أهل الدولة المستقرة يصيبون منه غرة باطناً وظاهراً لانقطاع المداخلة بين الدولتين فيقيمون على المطالبة وهم في إحجام وينكلون عن المناجزة حتى يأذن الله بزوال الدولة المستقرة وفناء عمرها ووفور الخلل في جميع جهاتها ويتضح لأهل الدولة المستجدة مع الأيام ما كان يخفى منها من هرمها وتلاشيها وقد عظمت قوتهم بما اقتطعوه من أعمالها ونقصوه من أطرافها فتنبعث هممهم يداً واحدة للمناجزة ويذهب ما كان يفت في عزائمهم من التوهمات وتنتهي المطاولة إلى حدها ويقع الاستيلاء آخراً بالمعاجلة‏.‏ واعتبر ذلك في دولة بني العباس حين ظهورها حين قام الشيعة بخراسان بعد انعقاد الدعوة واجتماعهم على المطالبة عشر سنين أو تزيد‏.‏ وحينئذ تم لهم الظفر واستولوا على الدولة الأموية‏.‏ وكذا العلوية بطبرستان عند ظهور دعوتهم في الديلم كيف كانت مطاولتهم حتى استولوا على تلك الناحية‏.‏ ثم لما انقضى أمر العلوية وسما الديلم إلى ملك فارس والعراقين فمكثوا سنين كثيرة يطاولون حتى اقتطعوا أصبهان ثم استولوا على الخليفة ببغداد‏.‏ وكذا العبيديون أقام داعيتهم بالمغرب أبو عبد الله الشيعي ببني كتامة من قبائل البربر عشر سنين ويزيد يطاول بني الأغلب بإفريقية حتى ظفر بهم واستولوا على المغرب كله وسموا إلى ملك مصر فمكثوا ثلاثين سنة أو نحوها في طلبها يجهزون إليها العساكر والأساطيل في كل وقت وبجيء المدد لمدافعتهم براً وبحراً من بغداد والشام وملكوا الإسكندرية والفيوم والصعيد وتخطت دعوتهم من هنالك إلى الحجاز وأقيمت بالحرمين‏.‏ ثم نازل قائدهم جوهر الكاتب بعساكره مدينة مصر واستولى عليها واقتلع دولة بني طغج من أصولها واختط القاهرة فجاء الخليفة بعد المعز لدين الله فنزلها لستين سنة أو نحوها منذ استيلائهم على الإسكندرية‏.‏ وكذا السلجوقية ملوك الترك لما استولوا على بني سامان وأجازوا من وراء النهر مكثوا نحواً من ثلاثين سنة يطاولون بني سبكتكين بخراسان حتى استولوا على دولته‏.‏ تم زحفوا إلى بغداد فاستولوا عليها وعلى الخليفة بها بعد أيام من الدهر‏.‏ وكذا التتر من بعدهم خرجوا من المفازة عام سبع عشرة وستمائة فلم يتم لهم الاستيلاء إلا بعد أربعين سنة‏.‏ وكذا أهل المغرب خرج به المرابطون من لمتونة على ملوكه من مغراوة فطاولوهم سنين ثم استولوا عليه‏.‏ ثم خرج الموحدون بدعوتهم على لمتونة فمكثوا نحواً من ثلاثين سنة يحاربونهم حتى استولوا على كرسيهم بمراكش‏.‏ وكذا بنو مرين من زناتة خرجوا على الموحدين فمكثوا يطاولونهم نحواً من ثلاثين سنة واستولوا على فاس واقتطعوها وأعمالها من ملكهم‏.‏ ثم أقاموا في محاربتهم ثلاثين أخرى حتى استولوا على كرسيهم بمراكش حسبما نذكر ذلك كله في تواريخ هذه الدول‏.‏ فهكذا حال الدول المستجدة مع المستقرة في المطالبة والمطاولة‏.‏ سنة الله في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلاً‏.‏ ولا يعارض ذلك بما وقع في الفتوحات الإسلامية وكيف كان استيلاؤهم على فارس والروم لثلاث أو أربع من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ واعلم أن ذلك إنما كان معجزة من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم سرها استماتة المسلمين في جهاد عدوهم استبصاراً بالإيمان وما أوقع الله في قلوب عدوهم من الرعب والتخاذل‏.‏ فكان ذلك كله خارقاً للعادة المقررة في مطاولة الدول المستجدة للمستقرة‏.‏ وإذا كان ذلك خارقاً فهو من معجزات نبينا صلوات الله عليه المتعارف ظهورها في الملة الإسلامية‏.‏ والمعجزات لا يقاس عليها الأمور العادية ولا يعترض بها‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏

  الفصل الخمسون في وفور العمران آخر الدولة وما يقع فيها من كثرة الموتان والمجاعات

اعلم أنه قد تقرر لك فيما سلف أن الدولة في أول أمرها لا بد لها من الرفق في ملكتها والاعتدال في إيالتها إما من الدين إن كانت الدعوة دينية أو من المكارمة والمحاسنة التي تقتضيها البداوة الطبيعية للدول‏.‏ وإذا كانت الملكة رفيقة محسنة انبسطت آمال الرعايا وانتشطوا للعمران وأسبابه فتوفر ويكثر التناسل‏.‏ وإذا كان ذلك كله بالتدريج فإنما يظهر أثره بعد جيل أو جيلين في الأقل‏.‏ وفي انقضاء الجيلين تشرف الدولة على نهاية عمرها الطبيعي فيكون حينئذ العمران في غاية الوفور والنماء‏.‏ ولا تقولن إنه قد مر لك أن أواخر الدولة يكون فيها الإجحاف بالرعايا وسوء الملكة فذلك صحيح ولا يعارض ما قلناه لأن الإجحاف وإن حدث حينئذ وقلت الجبايات فإنما يظهر أثره في تناقص العمران بعد حين من أجل التدريج في الأمور الطبيعية‏.‏ ثم إن المجاعات والموتان تكثر عند ذلك في أواخر الدول‏.‏ والسبب فيه‏:‏ أما المجاعات فلقبض الناس أيديهم عن الفلح في الأكثر بسبب ما يقع في آخر الدولة من العدوان في الأموال والجبايات أو الفتن الواقعة في انتقاص الرعايا وكثرة الخوارج لهرم الدولة فيقل احتكار الزرع غالباً وليس صلاح الزرع وثمرته بمستمر الوجود ولا على وتيرة واحدة فطبيعة العالم في كثرة الأمطار وقلتها مختلفة والمطر يقوى ويضغف ويقل ويكثر والزرع والثمار والضرع على نسبته إلا أن الناس واثقون في أقواتهم بالاحتكار‏.‏ فإذا فقد الاحتكار عظم توقع الناس للمجاعات فغلا الزرع وعجز عنه أولو الخصاصة فهلكوا وكان بعض السنوات والاحتكار وأما كثرة الموتان فلها أسباب من كثرة المجاعات كما ذكرناه أو كثرة الفتن لاختلال الدولة فيكثر الهرج والقتل أو وقوع الوباء‏.‏ وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرطوبات الفاسدة‏.‏ وإذا فسد الهواء وهو غذاء الروح الحيواني وملابسه دائماً فيسري الفساد إلى مزاجه‏.‏ فإن كان الفساد قوياً وقع المرض في الرئة‏.‏ وهذه هي الطواعين وأمراضها مخصوصة بالرئة‏.‏ وإن كان الفساد دون القوي والكثير فيكثر العفن ويتضاعف فتكثر الحميات في الأمزجة وتمرض الأبدان وتهلك‏.‏ وسبب كثرة العفن والرطوبات الفاسدة في هذا كله كثرة العمران ووفوره آخر الدولة لما كان في أوائلها من حسن الملكة ورفقها وقلة المغرم وهو ظاهر‏.‏ ولهذا تبين في موضعه من الحكمة أن تخلل الخلاء والقفر بين العمران ضروري ليكون تموج الهواء يذهب بما يحصل في الهواء من الفساد والعفن بمخالطة الحيوانات ويأتي بالهواء الصحيح‏.‏ ولهذا أيضاً فإن الموتان يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها بكثير كمصر بالمشرق وفاس بالمغرب‏.‏ والله يقدر ما يشاء‏.‏

  الفصل الحادي والخمسون في أن العمران البشري

اعلم أنه قد تقدم لنا في غير موضع أن الاجتماع للبشر ضروري وهو معنى العمران الذي نتكلم فيه وأنه لا بد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه وحكمه فيهم‏:‏ تارة يكون مستنداً إلى شرع منزلي من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلغه وتارة إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم‏.‏ فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة لعلم الشارع بالمصالح في العاقبة ولمراعاته نجاة العباد في الأخرة والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط‏.‏ وما تسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب وإنما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كل واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكام رأساً‏.‏ ويسمون المجتمع الذي يحصل فيه ما يسمى من ذلك بالمدينة الفاضلة ‏"‏ والقوانين المراعاة في ذلك بالسياسة المدنية وليس مرادهم السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع بالمصالح العامة فإن هذه غير تلك‏.‏ وهذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع وإنما يتكلمون عليها على جهة الفرض والتقدير‏.‏ ثم إن السياسة العقلية التي قدمناها تكون على وجهين‏:‏ أحدهما يراعى فيها المصالح على العموم ومصالح السلطان في استقامة ملكه على الخصوص‏.‏ وهذه كانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة‏.‏ وقد أغنانا الله تعالى عنها في الملة ولعهد الخلافة لأن الأحكام الشرعية مغنية عنها في المصالح العامة والخاصة والآداب وأحكام الملك مندرجة فيها‏.‏ الوجه الثاني أن يراعى فيها مصلحة السلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة وتكون المصالح العامة في هذه تبعاً‏.‏ وهذه السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع التي لسائر الملوك في العالم من مسلم وكافر إلا أن ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم فقوانينها إذاً مجتمعة من أحكام شرعية وآداب خلقية وقوانين في الاجتماع طبيعية وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية والاقتداء فيها بالشرع أولاً ثم الحكماء في آدابهم والملوك في سيرهم‏.‏ ومن أحسن ما كتب في ذلك وأودع كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله بن طاهر لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما‏.‏ فكتب إليه أبوه طاهر كتابه المشهور عهد إليه فيه ووصاه بجميع ما يحتاج إليه في دولته وسلطانه من الأداب الدينية والخلقية والسياسة الشرعية والملوكية وحثه على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم بما لا يستغني عنه ملك ولا سوقة‏.‏ ونص الكتاب‏:‏ نص كتاب طاهر بن الحسين بسم الله الرحمن الرحيم ‏"‏ أما بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له وخشيته ومراقبته عز وجل ومزايلة سخطه‏.‏ واحفظ رعيتك في الليل والنهار‏.‏ والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك وما أنت صائر إليه وموقوف عليه ومسوؤل عنه والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله عز وجل وينجيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه‏.‏ فإن الله سبحانه قد أحسن إليك وأوجب الرأفة عليك بمن استرعاك أمرهم من عباده وألزمك العدل فيهم والقيام بحقه وحدوده عليهم والذب عنهم والدفع عن حريمهم ومنصبهم والحقن لدمائهم والأمن لسربهم وإدخال الراحة عليهم‏.‏ ومؤاخذك بما فرض عليك وموقفك عليه وسائلك عنه ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت‏.‏ ففرغ لذلك فهمك وعقلك وبصرك ولا يشغلك عنه شاغل وإنه رأس أمرك وملاك شأنك وأول ما يوقفك الله عليه‏.‏ وليكن أول ما تلزم به نفسك وتنسب إليه فعلك المواظبة على ما فرض الله عزوجل عليك من الصلوات الخمس والجماعة عليها بالناس قبلك وتوقعها على سننها من إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله عزوجل فيها ورتل في قراءتك وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك ولتصرف فيه رايك ونيتك واحضض عليه جماعة ممن معك وتحت يدك وادأب عليها فإنها كما قال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ تنهى عن الفحشاء والمنكر ‏"‏‏.‏ ثم اتبع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمثابرة على خلائقه واقتفاء أثر السلف الصالح من بعده‏.‏ وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله عز وجل وتقواه وبلزوم ما أنزل الله عز وجل في كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه وائتمام ما جاءت به الأثارعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قم فيه بالحق لله عزوجل‏.‏ ولا تميلن عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو لبعيد‏.‏ وآثر الفقه وأهله والدين وحملته وكتاب الله عز وجل والعاملين به فإن أفضل ما يتزين به المرء الفقه في الدين والطلب له والحث عليه والمعرفة بما يتقرب به إلى الله عز وجل فإنه الدليل على الخير كله والقائد إليه والآمر به والناهي عن المعاصي والموبقات كلها‏.‏ ومع توفيق الله عز وجل يزداد المرء معرفة وإجلالاً له ودركاً للدرجات العلى في المعاد مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك والهيبة لسلطانك والأنسة بك والثقة بعدلك‏.‏ وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها فليس شيء أبين نفعاً ولا أخص أمناً ولا أجمع فضلاً منه‏.‏ والقصد داعية إلى الرشد والرشد دليل على التوفيق والتوفيق قائد إلى السعادة وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد فآثره في دنياك كلها‏.‏ ولا تقصر في طلب الأخرة والأجر والأعمال الصالحة والسنن المعروفة ومعالم الرشد والإعانة والاستكثار من البر والسعي له إذا كان يطلب به وجه الله تعالى ومرضاته ومرافقة أولياء الله في دار كرامته‏.‏ واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز ويمخص من الذنوب وأنك لن تحوط نفسك من قائل ولا تنصلح أمورك بأفضل منه فأته واهتد به تتم أمورك وتزد مقدرتك وتصلح عامتك وخاصتك‏.‏ وأحسن ظنك بالله عز وجل تستقم لك رعيتك والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك‏.‏ ولا تتهمن أحداً من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تكشف أمره فإن إيقاع التهم بالبرآء والظنون السيئة بهم آثم إثم‏.‏ فاجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك واطرد عنك سوء الظن بهم وارفضه فيهم يعنك ذلك على استطاعتهم ورياضتهم‏.‏ ولا تتخذن عدو الله الشيطان في أمرك معمداً فإنه إنما يكتفي بالقليل من وهنك ويدخل عليك من الغم بسوء الظن بهم ما ينقص لذاذة عيشك‏.‏ واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها‏.‏ ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك‏.‏ والمباشرة لأمور الأولياء وحياطة الرعية والنظر في حوائجهم وحمل مؤوناتهم أيسر عندك مما سوى ذلك فإنه أقوم للدين وأحيا للسنة‏.‏ واخلص نيتك في جميع هذا وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسؤول عما صنع ومجزي بما أحسن ومؤاخذ بما أساء‏.‏ فإن الله عز وجل جعل الدين حرزاً وعزاً ورفع من اتبعه وعززه‏.‏ واسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقه الأهدى‏.‏ وأقم حدود الله تعالى في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه ولا تعطل ذلك ولا تتهاون به ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك‏.‏ واعتزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة وجانب البدع والشبهات يسلم لك دينك وتتم لك مروءتك‏.‏ وإذا عاهدت عهداً فأوف به وإذا وعدت الخير فأنجزه‏.‏ واقبل الحسنة وادفع بها‏.‏ واغمض عن عيب كل في عيب من رعيتك واشدد لسانك عن قول الكذب والزور وابغض أهل النميمة فإن أول فساد أمورك في عاجلها وآجلها تقريب الكذوب والجراءة على الكذب لأن الكذب رأس المآثم والزور والنميمة خاتمتها لأن النميمة لا يسلم صاحبها وقائلها لا يسلم له صاحب ولا يستقيم له أمر‏.‏ وأحبب أهل الصلاح والصدق وأعز الأشراف بالحق وأعن الضعفاء وصل الرحم وابتغ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره والتمس فيه ثوابه والدار الأخرة‏.‏ واجتنب سوء الأهواء والجور واصرف عنهما رأيك وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك‏.‏ وأنعم بالعدل سياستهم وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى‏.‏ واملك نفسك عند وإياك أن تقول أنا مسلط أفعل ما أشاء فإن ذلك سريع إلى نقص الرأي وقلة اليقين لله عز وجل‏.‏ وأخلص لله وحده النية فيه واليقين به‏.‏ واعلم أن الملك لله سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء‏.‏ ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى جهلة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة إذا كفروا نعم الله وإحسانه واستطالوا بما أعطاهم الله عز وجل من فضله‏.‏ ودع عنك شره نفسك ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز البر والتقوى واستصلاح الرعية وعمارة بلادهم والتفقد لأمورهم والحفظ لحمائهم والإغاثة لملهوفهم‏.‏ واعلم أن الأموال إذا اكتنزت واذخرت في الخزائن لا تنمو وإذا كانت في صلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف الأذية عنهم نمت وزكت وصلحت بها العامة وترتبت بها الولاية وطاب بها الزمان واعتقد فيها العز والمنفعة‏.‏ فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله‏.‏ ووفر منه على أولياء أمير المومنين قبلك حقوقهم وأوف من ذلك حصصهم وتعهد ما يصلح أمورهم ومعاشهم فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة لك واستوجبت المزيد من الله تعالى وكنت بذلك على جباية أموال رعيتك وخراجك أقدر وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك‏.‏ وطب نفساً بكل ما أردت وأجهد نفسك فيما حمدت لك في هذا الباب وليعظم حقك فيه وإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله وفي سبيل حقه‏.‏ وأعرف للشاكرين حقهم وأثبهم عليه وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك فإن التهاون يورث التفريط والتفريط يورث البوار‏.‏ وليكن عملك لله عز وجل وفيه وارج الثواب منه فإن الله سبحانه قد أسبغ فضله‏.‏ واعتصم بالشكر وعليه فاعتمد يزدك الله خيراً وإحساناً فإن الله عز وجل يثيب بقدر شكر الشاكرين وإحسان المحسنين‏.‏ ولا تحقرن ذنباً ولا تمالئن حاسداً ولا ترحمن فاجراً ولا تصلن كفوراً ولا تداهنن عدواً ولا تصدقن نماماً ولا تأمنن غداراً ولا توالين فاسقاً ولا تتبعن غاوياً ولا تحمدن مرائياً ولا تحقرن إنساناً ولا تردن سائلاً فقيراً ولا تحسنن باطلاً ولا تلاحظن مضحكاً ولا تخلفني وعداً ولا تزهون فخراً ولا تظهرن غضباً ولا تباينن رجاء ولا تمشين مرحاً ولا تزكين سفيهاً ولا تفرطن في طلب الأخرة ولا ترفعن للنمام عيناً ولا تغمضن عن ظالم رهبة منه أو محاباة ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا‏.‏ وأكثر مشاورة الفقهاء واستعمل نفسك بالحلم وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة‏.‏ ولا تدخلن في مشورتك أهل الرفه والبخل ولا تسمعن لهم قولاً فإن ضررهم أكثر من نفعهم‏.‏ وليس شيء أسرع فساداً لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح‏.‏ واعلم أنك إذا كنت حريصاً كنت كثير الأخذ قليل العطية وإذا كنت كذلك لم يستقم أمرك إلا قليلاً فإن رعيتك إنما تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عليهم‏.‏ ووال من صافاك من أوليائك بالإفضال عليهم وحسن العطية لهم‏.‏ واجتنب الشح واعلم أنه أول ما عصى الأنسان به ربه وأن العاصي بمنزلة الخزي وهو قول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ‏"‏‏.‏ فسهل طريق الجود بالحق واجعل للمسلمين كلهم في فيئك حظاً ونصيباً وايقن أن الجود أفضل أعمال العباد فأعده لنفسك خلقاً و أرض به عملاً ومذهباً‏.‏ وتفقد الجند في دواوينهم ومكاتبهم وأدر عليهم أرزاقهم ووسع عليهم في معايشهم يذهب الله عز وجل بذلك فاقتهم فيقوى لك أمرهم وتزيد قلوبهم فى طاعتك وأمرك خلوصاً وانشراحاً‏.‏ وحسب في السلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته ذا رحمة في عدله وعطيته وإنصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسعته‏.‏ فزايل مكروه أحد البابين باستشعار فضل الباب الأخر ولزوم العمل به تلق أن شاء الله تعالى به نجاحاً وصلاحاً وفلاحاً‏.‏ واعلم أن القضاء من الله تعالى بالمكان الذي ليس فوقه شيء من الأمور لأنه ميزان الله الذي تعدل عليه أحوال الناس في الأرض‏.‏ وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرعية وتؤمن السبل وينتصف المظلوم وتأخذ الناس حقوق وتحسن المعيشة ويودى حق الطاعة ويرزق الله العافية والسلامة ويقيم الدين‏.‏ ويجري السنن والشرائع في مجاريها‏.‏ واشتد في أمر الله عز وجل‏.‏ وتورع عن النطف وامض لإقامة الحدود‏.‏ وأقلل العجلة وابعد عن الضجر والقلق واقنع بالقسم وانتفع بتجربتك وانتبه في صحتك واسدد في منطقك وأنصف الخصم وقف عند الشبهة وأبلغ في الحجة ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا مجاملة ولا لومة لائم وتثبت وتأن وراقب وانظر وتفكر وتدبر واعتبر وتواضع لربك وارفق بجميع الرعية وسلط الحق على نفسك ولا تسرعن إلى سفك دم فإن الدماء من الله عزوجل بمكان عظيم فلا تبغ انتهاكاً لها بغير حقها‏.‏ وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية وجعله الله للإسلام عزاً ورفعة ولأهله توسعة ومنعةً ولعدوه كبتاً وغيظاً ولأهل الكفر من معاديهم ذلاً وصغاراً فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم ولا تدفعن شيئاً منه عن شريف لشرفه ولا عن غني لغناه ولا عن كاتب لك ولا عن أحد من خاصتك ولا حاشيتك ولا تأخذن منه فوق الأحتمال له‏.‏ ولا تكلف أمراً فيه شطط‏.‏ واحمل الناس كلهم على أمر الحق فإن ذلك اجمع لإلفتهم وألزم لرضاء العامة‏.‏ واعلم أنك جعلت بولايتك خازناً وحافظاً وراعياً وإنما سمي أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم وقيمهم‏.‏ فخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ونفذه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم‏.‏ واستعمل عليهم أولي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعلم والعدل بالسياسة والعفاف‏.‏ ووسع عليهم في الرزق فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك فلا يشغلك عنه شاغل ولا يصرفك عنه صارف‏.‏ فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك وحسن الأحدوثة في عملك واستجررت به المحبة من رعيتك وأعنت على الصلاح فدرت الخيرات ببلدك وفشت العمارة بناحيتك وظهر الخصب في كورك وكثر خراجك وتوفرت أموالك وقويت بذلك على ارتياض جندك وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك وكنت محمود السياسة مرضي العدل في ذلك عند عدوك وكنت في أمورك كلها ذا عدل وآلة وقوة وعدة‏.‏ فتنافس فيها ولا تقدم عليها شيئاً تحمد عاقبة أمرك‏.‏ أن شاء الله تعالى‏.‏ واجعل في كل كورة من عملك أميناً يخبرك خبر عمالك ويكتب إليك بسيرهم وأعمالهم حتى كأنك مع كل عامل في عمله معايناً لأموره كلها‏.‏ وإذا أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك فإن رأيت السلامة فيه والعافية ورجوت فيه حسن الدفاع والصنع فأمضه وإلا فتوقف عنه وراجع أهل البصر والعلم به ثم خذ فيه عدته فإنه ربما نظر الرجل في أمره وقد أتاه على ما يهوى فأغواه ذلك وأعجبه فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقض عليه أمره‏.‏ فاستعمل الحزم في كل ما أردت وباشره بعد عون الله عز وجل بالقوة‏.‏ وأكثر من استخارة ربك في جميع أمورك‏.‏ وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك وأكثر مباشرته بنفسك فإن لغد أموراً وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت‏.‏ واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه فإذا أخرت عمله اجتمع عليك عمل يومين فيشغلك ذلك حتى تمرض منه‏.‏ وإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت بدنك ونفسك وجمعت أمر سلطانك‏.‏ وانظر أحرار الناس وذوي الفضل منهم ممن بلوت صفاء طويتهم وشهدت مودتهم لك ومظاهرتهم بالنصح والمحافظة على أمرك فاستخلصهم وأحسن إليهم‏.‏ وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة واحتمل مؤونتهم وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم منافراً وأفرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على ربع مظلمته إليك والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه فسل عنه أحفى مسألة وكل بأمثاله أهل الصلاح في رعيتك ومرهم برفع حوائجهم وخلالهم إليك لتنظر فيما يصلح الله به أمرهم‏.‏ وتعاهد ذوي البأساء ويتماهم وأراملهم واجعل لهم أرزاقاً من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله تعالى في العطف عليهم والصلة لهم ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة‏.‏ وأجر للأضراء من بيت المال وقدم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم‏.‏ وانصب لمرضى المسلمين دوراً تأويهم وقواماً يرفقون بهم وأطباء يعالجون أسقامهم وأسعفهم بشهواتهم ما لم يود ذلك إلى سرف في بيت المال‏.‏ واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعاً في نيل الزيادة وفضل الرفق بهم‏.‏ وربما تبرم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه ويشغل ذكره وفكره منها ما يناله به من مؤونة ومشقة‏.‏ وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الأجل كالذي يستقل ما يقربه من الله تعالى وتلتمس به رحمته‏.‏ وأكثر الإذن للناس عليك وأرهم وجهك وسكن لهم حواسك واخفض لهم جناحك وأظهر لهم بشرك ولن لهم في المسألة والنطق واعطف عليهم بجودك وفضلك‏.‏ وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس والتماس للصنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله تعالى‏.‏ واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومن مضى قبلك من أهل السلطان والرياسة في القرون الخالية ثم اعتصم في أحوالك كلها بالله سبحانه وتعالى والوقوف عند محبته والعمل بشريعته وسنته وبإقامة دينه وكتابه واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله عز وجل‏.‏ واعرف ما يجمع عمالك من الأموال وما ينفقون منها‏.‏ ولا تجمع حراماً ولا تنفق إسرافاً‏.‏ وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها وإيثار مكارم الأخلاق ومعاليها‏.‏ وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيباً لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في ستر وإعلامك بما فيه من النقص فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك‏.‏ وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتاً يدخل فيه بكتبه ومؤامرته وما عنده من حوائج عمالك وأمور الدولة ورعيتك‏.‏ ثم فرغ لما يورد عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك وكرر النظر فيه والتدبر له فما كان موافقاً للحق والحزم فأمضه واستخر الله عز وجل فيه وما كان مخالفاً لذلك فاصرفه إلى المسألة عنه والتثبت منه‏.‏ ولا تمنن على رعيتك ولا غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم‏.‏ ولا تقبل من أحد إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور المسلمين ولا تضعن المعروف إلا على ذلك‏.‏ وتفهم كتابي إليك وأمعن النظر فيه والعمل به واستعن بالله على جميع أمورك واستخره فإن الله عز وجل مع الصلاح وأهله‏.‏ وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان لله عز وجل رضاً ولدينه نظاماً ولأهله عزاً وتمكيناً وللملة والذمة عدلاً وصلاحاً‏.‏ وأنا أسأل الله عز وجل أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك والسلام‏.‏ وحدث الإخباريون أن هذا الكتاب لما ظهر وشاع أمره أعجب به الناس واتصل بالمأمون فلما قرىء عليه قال‏:‏ ما أبقى أبو الطيب يعني طاهراً شيئاً من أمور الدنيا والدين والتدبير والرأي والسياسة وصلاح الملك والرعية وحفظ السلطان وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه وأوصى به‏.‏ ثم أمر المأمون فكتب به إلى جميع العمال في النواحي ليقتدوا به ويعملوا بما فيه‏.‏ هذا أحسن ما وقفت عليه في هذه السياسة‏.‏ والله أعلم‏.‏